فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} عطف على جملة {كذلك فعل الذين من قبلهم} [سورة النحل: 35].
وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالًا بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجّة، فقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة} بيان لمضمون جملة {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} [النحل: 35].
وجملة فمنهم من هدى الله إلى آخرها بيان لمضمون جملة {كذلك فعل الذين من قبلهم}.
والمعنى: أن الله بيّن للأمم على ألسنة الرسل عليهم السلام أنّه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام؛ فمن كل أمّة أقوام هداهم الله فصدّقوا وآمنوا، ومنهم أقوام تمكّنت منهم الضلالة فهلكوا.
ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم.
و{أن} تفسيرية لجملة {بعثنا} لأنّ البعث يتضمّن معنى القول، إذ هو بعث للتبليغ.
و{الطاغوت} جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام.
وقد يذكرونه بصيغة الجمع، فيقال: الطواغيت، وهي الأصنام.
وتقدّم عند قوله تعالى: {يؤمنون بالجبت والطاغوت} في سورة النساء (51).
وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيهًا للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} [سورة النحل: 35]. بأن الله بيّن لهم الهُدى، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه، فهو الهادي لهم.
والتّعبير في جانب الضلالة بلفظ حقّت عليهم دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة فحقّت عليهم الضلالة، أي ثبتت ولم ترتفع.
وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم؛ ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين، كما في قوله: {ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا} [سورة الأنعام: 125]، وقوله عقب هذا {فإن الله لا يهدي من يضلّ} [سورة النحل: 37]. على قراءة الجمهور، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كَوّنَ أسبابًا عديدة بعضها جاء من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى.
فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور.
فافْهَم.
ثم فرّع على ذلك الأمَر بالسير في الأرض لينظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد، ولذلك كان الاستدلال بها متوقّفًا على السير في الأرض، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السّلف الأوائل.
{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)}.
استئناف بياني، لأن تقسيم كل أمّة ضالّة إلى مهتد منها وباقٍ على الضلال يثير سؤالًا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذه الأمّة: أهو جار على حال الأمم التي قبلها، أو أن الله يهديهم جميعًا.
وذلك من حرصه على خيرهم ورأفته بهم، فأعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلاله.
وفي الآية لطيفتان:
الأولى: التعريض بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنَق في نفس من يلحقه الأذى؛ ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مطهّرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية.
واللطيفة الثانية: الإيماء إلى أن غالب أمّة الدعوة المحمّدية سيكونون مهتدين وأن الضُلاّل منهم فئة قليلة، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقُدرته من الأسباب التي هيّأت لهم البقاء في الضلال.
والحرصُ: فرط الإرادة الملحّة في تحصيل المُراد بالسّعي في أسبابه.
والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط، لأن مضمون الشرط معلوم الحصول، لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه النّاس، كما قال تعالى: {حريص عليكم} [سورة التوبة: 128].؛ وإنّما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط.
فالمعنى: إن كنت حريصًا على هداهم حرصًا مستمرًا فاعلم أن من أضلّه الله لا تستطيع هديه ولا تجد لهديه وسيلة ولا يهديه أحد.
فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير، كقول عنترة:
إن تُغْدِ فِي دوني القِناعَ فإنّني ** طَبّ بأخذ الفارس المستلئم

وأظهر منه في هذا المعنى قوله أيضًا:
إن كنت أزمعتتِ الفراق فإنما ** زُمّت رِكابكم بليلٍ مظلم

فإنّ فعل الشرط في البيتين في معنى: إن كان ذلك تصْميمًا، وجواب الشرط فيهما في معنى إفادة العلم.
وجعل المسند إليه في جملة الإخبار عن استمرار ضلالهم اسمَ الجلالة للتهويل المشوق إلى استطلاع الخبر.
والخبر هو أن هداهم لا يحصل إلاّ إذا أراده الله ولا يستطيع أحد تحصيله لا أنت ولا غيرك، فمن قدّر الله دوام ضلاله فلا هادي له.
ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يكون المسند إليه ضمير المتحدّث عنهم بأن يقال: فإنهم لا يهديهم غير الله.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {لا يُهدَى} بضم الياء وفتح الدّال مبنيًا للنائب، وحذف الفاعل للتعميم، أي لا يهديه هاد.
و{مَن} نائب فاعل، وضمير {يضل} عائد إلى الله، أي فإن الله لا يُهدَى المضَلّل بفتح اللاّم منه.
فالمسند سببي وحُذف الضمير السببي المنصوب لظهوره وهو في معنى قوله: {ومن يضلل الله فما له من هاد} [سورة الرعد: 33]، وقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} [سورة الأعراف: 186].
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {لا يَهدي} بفتح الياء بالبناء للفاعل، وضمير اسم الجلالة هو الفاعل، و{مَن} مفعول {يهدي}، والضمير في {يضل} للّهِ، والضمير السببي أيضًا محذوف، والمعنى: أنّ الله لا يهدي من قَدّر دوام ضلاله، كقوله تعالى: {وأضله الله على علم} [سورة الجاثية: 23]. إلى قوله: {فمن يهديه من بعد الله} [سورة الجاثية: 23].
ومعنى {وما لهم من ناصرين} ما لهم ناصر ينجيهم من العذاب، أي كما أنهم ما لهم منقذ من الضلال الواقعين فيه ما لهم ناصر يدفع عنهم عواقب الضلال.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)}.
انتقال لحكاية مقالة أخرى من شنيع مقالاتهم في كفرهم، واستدلال من أدلّة تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به إظهارًا لدعوته في مظهر المحال، وذلك إنكارهم الحياة الثانية ولبعث بعد الموت.
وذلك لم يتقدم له ذكر في هذه السورة سوى الاستطراد بقوله: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة} [سورة النحل: 22].
والقسم على نفي البعث أرادوا به الدّلالة على يقينهم بانتفانه.
وتقدّم القول في {جهد أيمانهم} عند قوله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم} في سورة العقود (53).
وإنما أيقنوا بذلك وأقسموا عليه لأنّهم توهّموا أن سلامة الأجسام وعدم انخرامها شرط لقبولها الحياة، وقد رأوا أجساد الموتى معرّضة للاضمحلال فكيف تعاد كما كانت.
وجملة {لا يبعث الله من يموت} عطف بيان لجملة {أقسموا} وهي ما أقسموا عليه.
والبعث تقدّم آنفًا في قوله تعالى: {وما يشعرون أيّان يبعثون} [سورة النمل: 65].
والعدول عن {الموتى} إلى {من يموت} لقصد إيذان الصّلة بتعليل نفي البعث، فإن الصّلة أقوى دلالة على التعليل من دلالة المشتق على عليّة الاشتقاق، فهم جعلوا الاضمحلال منافيًا لإعادة الحياة، كما حكي عنهم {وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابًا وآباؤنا أإنا لمخرجون} [سورة النمل: 67].
و{بَلى} حرف لإبطال النفي في الخبر والاستفهام، أي بل يبعثهم الله.
وانتصب {وعدًا} على المفعول المطلق مؤكدًا لما دلّ عليْه حرف الإبطال من حصول البعث بعد الموت.
ويسمى هذا النوع من المفعول المطلق مؤكدًا لنفسه، أي مؤكدًا لمعنى فعل هو عين معنى المفعول المطلق.
و{عليه} صفة ل {وعدًا}، أي وعدًا كالواجب عليه في أنه لا يقبل الخلف.
ففي الكلام استعارة مكنية.
شبه الوعد الذي وعده الله بمحض إرادته واختياره بالحقّ الواجب عليه ورُمز إليه بحرف الاستعلاء.
و{حقًا} صفة ثانية ل {وعدًا}.
والحقّ هنا بمعنى الصدق الذي لا يتخلّف.
وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن} في سورة براءة (111).
والمراد بأكثر الناس المشركون، وهم يومئذٍ أكثر الناس.
ومعنى {لا يعلمون} أنهم لا يعلمون كيفيّة ذلك فيقيمون من الاستبعاد دليل استحالة حصول البعث بعد الفناء.
والاستدراك ناشىء عن جعله وعدًا على الله حقًّا، إذ يتوهّم السامع أن مثل ذلك لا يجهله أحد فجاء الاستدراك لرفع هذا التوهّم، ولأن جملة {وعدًا عليه حقًا} تقتضي إمكان وقوعه والناس يستبعدون ذلك.
{ليبين} تعليل لقوله تعالى: {وعدًا عليه حقًا} [سورة النحل: 38]. لقصد بيان حكمة جعله وعدًا لازمًا لا يتخلّف، لأنه منوط بحكمة، والله تعالى حكيم لا تجري أفعاله على خلاف الحكمة التامّة، أي جعل البعث ليبيّن للناس الشيء الذي يختلفون فيه من الحقّ والباطل فيظهر حقّ المحقّ ويظهر باطل المبطل في العقائد ونحوها من أصول الدّين وما ألحق بها.
وشمل قوله: {يختلفون} كل معاني المحاسبة على الحقوق لأن تمييز الحقوق من المظالم كلّه محل اختلاف الناس وتنازعهم.
وعطف على هذه الحكمة العامّة حكمةٌ فرعيّة خاصّة بالمردود عليهم هنا، وهي حصول العلم للّذين كفروا بأنهم كانوا كاذبين فيما اخترعوه من الشرك وتحريم الأشياء وإنكار البعث.
وفي حصول علمهم بذلك يوم البعث مثارٌ للندامة والتحسّر على ما فرط منهم من إنكاره.
وقد تقدّم بيان حكمة الجزاء في يوم البعث في أول سورة يونس.
و{كانوا كاذبين} أقوى في الوصف بالكذب من {كذَبوا أو كاذبون}، لما تدلّ عليه {كان} من الوجود زيادة على ما يقتضيه اسم الفاعل من الاتّصاف، فكأنه قيل: وُجد كذبهم ووصفوا به.
وكذبهم يستلزم أنهم معذّبون عقوبة على كذبهم.
ففيه شتم صريح تعريض بالعقاب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
الحق سبحانه يقول هنا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا} [النحل: 36].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {مِن كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل: 84].
فهذه لها معنى، وهذه لها معنى.. فقوله: {مِن كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل: 84].
أي: من أنفسهم، منهم خرج، وبينهم تربَّى ودَرَج، يعرفون خِصَاله وصِدْقه ومكانته في قومه.
أما قوله تعالى: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل: 36].
ف {في} هنا تفيد الظرفية. أي: في الأمة كلها، وهذه تفيد التغلغل في جميع الأمة.. فلا يصل البلاغ منه إلى جماعة دون أخرى، بل لابد من عموم البلاغ لجميع الأمة.
وكذلك يقول تعالى مرة: {أَرْسَلْنَا} [الحديد: 26].
ومرة أخرى يقول: {بَعَثْنَا} [النحل: 36].
وهناك فرق بين المعنيين ف {أَرْسَلْنَا} تفيد الإرسال، وهو: أن يتوسط مُرْسَل إلى مُرْسَل إليه. أما {بَعَثْنَا} فتفيد وجود شيء سابق اندثر، ونريد بعثه من جديد.
ولتوضيح هذه القضية نرجح إلى قصة آدم عليه السلام حيث عَلّمه الله الأسماء كلها، ثم أهبطه من الجنة إلى الأرض، وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].
وقال في آية أخرى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123].
إذن: هذا منهج من الله تعالى لآدم عليه السلام والمفروض أن يُبلِّغ آدم هذا المنهج لأبنائه، والمفروض في أبنائه أن يُبلِّغوا هذا المنهج لأبنائهم، وهكذا، إلا أن الغفلة قد تستحوذ على المبلِّغ للمنهج، أو عدم رعاية المبلِّغ للمنهج فتنطمس المناهج، ومن هنا يبعثها الله من جديد، فمسألة الرسالات لا تأتي هكذا فجأة فجماعة من الجماعات، بل هي موجودة منذ أول الخلق.
فالرسالات إذن بَعْثٌ لمنهج إلهي، كان يجب أنْ يظلَّ على ذكر من الناس، يتناقله الأبناء عن الآباء، إلا أن الغفلة قد تصيب المبلّغ فلا يُبلّغ، وقد تصيب المبلَّغ فلا يلتزم بالبلاغ؛ لذلك يجدد الله الرسل.
وقد وردت آياتٌ كثيرة في هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
وقوله: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].
وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
لذلك نرى غير المؤمنين بمنهج السماء يَضعُون لأنفسهم القوانين التي تُنظِّم حياتهم، أليس لديهم قانون يُحدِّد الجرائم ويُعاقب عليها؟ فلا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ، ولا نصَّ إلا بإبلاغ.
ومن هنا تأتي أهمية وَضْع القوانين ونشرها في الصحف والجرائد العامة ليعلمها الجميع، فلا يصح أنْ نعاقبَ إنسانًا على جريمة هو لا يعلم أنها جريمة، فلابد من إبلاغه بها أولًا، ليعلم أن هذا العمل عقوبته كذا وكذا، ومن هنا تُقام عليه الحُجة.
وهنا أيضًا نلاحظ أنه قد يتعاصر الرسولان، ألم يكُنْ إبراهيم ولوط متعاصريْن؟ ألم يكُنْ شعيب وموسى متعاصريْن؟ فما عِلَّة ذلك؟
نقول: لأن العالمَ كان قديمًا على هيئة الانعزال، فكُلّ جماعة منعزلة في مكانها عن الأخرى لعدم وجود وسائل للمواصلات، فكانت كل جماعة في أرض لا تدري بالأخرى، ولا تعلم عنها شيئًا.
ومن هنا كان لكُلِّ جماعة بيئتُها الخاصة بما فيها من عادات وتقاليد ومُنكَرات تناسبها، فهؤلاء يعبدون الأصنام، وهؤلاء يُطفِّفون الكيل والميزان، وهؤلاء يأتون الذكْران دون النساء.
إذن: لكل بيئة جريمة تناسبها، ولابد أن نرسل الرسل لمعالجة هذه الجرائم، كُلّ في بلد على حِدَة.
لكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت على موعد مع التقاءات الأمكنة مع وجود وسائل المواصلات، لدرجة أن المعصية تحدث مثلًا في أمريكا فنعلم بها في نفس اليوم.. إذن: أصبحتْ الأجواء والبيئات واحدة، ومن هنا كان منطقيًا أن يُرْسلَ صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وللأزمنة كافة.